د. صلاح جرّار
لا تتحقّق الزعامة بالقوّة والمال وحدهما، كما يتوهّم كثير من متغطرسي هذا الزمن في الغرب والشرق، إذ لا بدّ لهذين الشرطين من الشرط الإنساني والفكري والأخلاقي الذي يضمن لهما النجاح وتحقيق الغايات، ومن غير هذا الشرط تتهاوى كلّ المنجزات التي تتحقق بالقوة والمال، لأنّ القوة العسكرية مآلها الضعف مهما عظمت، والمال مآله الزوال مهما كثر، أما العوامل الإنسانية والفكرية والأخلاقية فإن آثارها تبقى متفاعلة على الدوام.
أستذكر هذه القاعدة وأنا أتابع كلّ يوم بمرارة وحسرة ما تمرّ به بلادنا العربية من صراعات دامية يتفنّن فيها المتصارعون في القتل والتدمير، دون أن يدركوا ما يخلّفه ذلك من آثار كارثية بعيدة المدى على مستقبل هذه الأمّة ومستقبل أجيالها.
ويتمثّل جانبٌ من مأساة الأمّة في غياب دور العقلاء والحكماء الذين يلوذ الناس إليهم لوقف هذه الحروب والنزاعات، وكلّما ازداد ابتعاد العقلاء عن أداء دورهم ازداد تدخّل الجهلة والطامعين من داخل الأرض العربيّة وخارجها لدعم هذا الطرف أو ذاك، مما يزيد الأمور تعقيداً وتفاقماً ويزيد الحلول استعصاءً.
فأتذكر كيف أنّ العرب في الجاهلية كانوا أكثر حكمةً وتعقّلاً عند نشوب الأزمات والصراعات، فكان الزعماء الحقيقيون يتدخلون دائماً للصلح بين المتحاربين وتحقيق السلم.
وأشهر الأمثلة على ذلك قصة هرم بن سنان المرّي الذبياني أمير بني ذبيان وسيّدهم في الجاهلية المتوفى قبل الهجرة النبوية بنحو خمسة عشر عاماً، فقد سعى هو والحارث بن عوف المرّي الذبياني إلى الصلح بين قبيلتي عبس وذبيان، وتحمّلا ديات القتلى، وقد مدحهما زهير بن أبي سلمى على ما قاما به من مساع لوقف الحروب وإشاعة السلم في الجزيرة العربيّة حيث يقول:
لعمري لنعم السيّدان وجدتما على كلّ حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم
أمّا اليوم، وعلى الرغم من كثرة الحروب والفتن بين العرب وكثرة أموالهم، فإنّ أحداً لم يبذل جهداً كافياً في محاولة التوسّط بين الأطراف المتنازعة وتحقيق الصلح وإيقاف سفك الدماء المراقة يومياً ووضع حد لتدمير مقدّرات الأمّة، في سوريا والعراق وليبيا واليمن وغيرها.
إنّ الزعامة الحقيقية في مثل هذه الظروف هي التي تكتسب من خلال السعي الجادّ والمتواصل لوقف النزاعات وسفك الدماء.
ولذلك أقول: ما أحوجنا اليوم إلى العقلاء والحكماء! فأين هم في وطننا العربيّ الكبير؟!
وأين آثارهم التي تدلّ عليهم وعلى جهودهم؟ وما سرّ غيابهم في هذه الظروف الحرجة؟
[email protected]